29/06/2019 - 20:10

مقابلة | صعابنة: سياسات الدولة ساهمت بتنامي الفوارق الطبقية وتُعيق المبادرات الوطنية

التراتبية الاجتماعية - الاقتصادية، تجري في حيز محدود يضم أسرا ومجموعات يجمعها تاريخ طويل ومشترك، كما أنه لا يوجد سبيل لإخفاء هذه الفروقات والتراتبية التي تزداد حدتها يوميا في هذا السياق الاجتماعي - الاقتصادي المكاني، ما يُضاعف التوتر.

مقابلة | صعابنة: سياسات الدولة ساهمت بتنامي الفوارق الطبقية وتُعيق المبادرات الوطنية

توضيحية من الأرشيف (أ ف ب)

عميد صعابنة:

  • هناك توجه اقتصادي جاف تُحرّكه مصلحة هذا السوق في دمج العرب في السوق الإسرائيلي
  • تعمق التراتُبية والتقطب الاجتماعي - الاقتصادي، يزيد من حدة التوتر داخل "الغيتو العربي"
  • تحصيل الحقوق الفردية قد يُضعف موقف الجماعة، ويضعها أمام تحديات جديدة

في الورقة التي قدمها لمؤتمر "تحولات المشاركة السياسية ورؤية حول المستقبل" الذي عقده مركز مدى الكرمل مؤخرا، يحاول الباحث، عميد صعابنة تحرّي أنماط المشاركة السياسية لدى المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، في ظل السياق الاقتصادي - الاجتماعي؛ الذي تطور مؤخرا بفعل السياسات النيوليبرالية التي تبنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

 د. عميد صعابنة

ويشير صعابنة إلى أن هذه السياسات أدت إلى جملة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية، أهمها تعميق الفجوات الطبقية في المجتمع الإسرائيلي، وبدأت ملامحها تبرز في تعميق الفجوات الطبقية في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل كذلك.

ويرى صعابنة أن ما يميز المشاركة السياسية للفلسطينيين في إسرائيل، في العقد الأخير، أنها تجري في سياق يتميّز بازدياد التراتبية والتقطب الاقتصادي والاجتماعي داخل المجتمع الفلسطيني، وهو ما قد يُعيق المبادرات الوطنية الجماعية، والعمل السياسي المنظم، ويشجع توجهات نحو الحراك الاجتماعي الفردي كما يشجع توجهات تسير باتجاه الاندماج في المجتمع الإسرائيلي وفي مؤسسات الدولة.

حول تأثير السياق الاقتصادي - الاجتماعي، على السلوك السياسي للعرب الفلسطينيين في الداخل، وأنماط المشاركة السياسية بينهم في ظلّ تلك التحولات، كان هذا الحوار مع د. عميد صعابنة:
عرب 48: ما مدى تأثير السياق الاقتصادي - الاجتماعي والفوارق والتقطب الطبقي، الذي تحدثت عنه، على مجتمع يقع كله تحت واقع اضطهاد وتمييز وإقصاء وتهميش سياسي واقتصادي؟ 
صعابنة: في البداية يجب التذكير أن السياسات الاقتصادية النيولبرالية ليست جديدة على إسرائيل، فقد بدأت في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، وتعمقت مع مطلع القرن الحالي، علما أن امتداداتها في مجتمعنا أكثر حداثة وحتى آثارها على المجتمع الإسرائيلي نفسه؛ بدأت تظهر بحِدّة في السنوات الأخيرة، إذ تشير الدراسات إلى تعمق الفوارق الطبقية.

ومن المعلوم أن سياسات الخصخصة، وتقليص حجم مصروفات الدولة على الخدمات الاجتماعية والصحية، أدت إلى تقليص دور دولة الرفاه وقد ظهرت في السنوات الأخيرة بوضوح تأثيرات وتداعيات هذه السياسات على البنية الاجتماعية الإسرائيلية، بتنامي الفوارق الطبقية، وتعميق حدة الفقر، وازدياد في مظاهر الغنى الفاحش، على حساب انكماش الطبقة الوسطى الإسرائيلية. 

ورغم شُحّ المعطيات التي تتناول تأثيرات وتداعيات هذه السياسة على المجتمع الفلسطيني بالخصوص، ومن هي الفئات الرابحة ومن هي الفئات الخاسرة داخل هذا المجتمع، إلا أن المؤشرات العامة تفيد بارتفاع مستوى المعيشة عند العرب ولكنه لم يرتفع لدى الجميع بشكل متساوٍ، فهناك فئات ارتفعت وهناك فئات هبطت بمستوى معيشتها، وهناك فئات بقيت على حالها وهذا ما يزيد من التراتبية وتعميق الفوارق الطبقية.

وما يميز هذه التراتبية الاجتماعية الجديدة أنها تحصل في حيّز جغرافي محصور يمكن تسميته بـ"الغيتو العربي" حيث تعيش داخل البلدات العربية كل الطبقات الاجتماعية - الاقتصادية، وغالبا لا تظهر فيها تراتبية مكانية، ففي نفس الحي تعيش أُسَر تتمتع بمستوى عالٍ من المعيشة وبجانبها أسر تعاني من الفقر.

وهذه التراتبية الاجتماعية - الاقتصادية، تجري في حيز محدود يضم أسرا ومجموعات يجمعها تاريخ طويل ومشترك، كما أنه لا يوجد سبيل لإخفاء هذه الفروقات والتراتبية التي تزداد حدتها يوميا في هذا السياق الاجتماعي - الاقتصادي المكاني، ما يُضاعف التوتر بين سكان البلدة الواحدة. 

عرب 48: تقصد أنه لا يوجد لدينا "هرتسليا" و"يروحام" أو "السفيون" و"شخونات هتكفا" كما هو الحال في المجتمع الإسرائيلي؟
صعابنة: نعم، ولذلك فإن ما يميز الفوارق الطبقية عندنا هو أنها  تحدث داخل هذه "الغيتوهات"، ونتيجة للسياسات الاقتصادية الإسرائيلية، بدأت تنتشر علاقات اقتصادية جديدة، ففي حين تميزت غالبية العلاقات بين أبناء البلدة الواحدة في السابق بجوهرها الاجتماعي، فقد تميزت علاقات العمل الآن بجوهرها الاقتصادي، مثل علاقة رب العمل وعمّاله، أو أصحاب الأملاك والمستأجرين منه، أو أصحاب المكاتب وموظفيهم، وهي علاقات تبعية اقتصادية لم تكن شائعة في المجتمع الفلسطيني من قبل، ومن شأنها أن تزيد من حدة التراتبية الاجتماعية - الاقتصادية. 

ويأتي هذا التحول، على خلفية نشوء وتبلور طبقة وسطى فلسطينية بدأت تظهر معالمها بوضوح أكبر في العقدين الأخيرين، بفعل عوامل عديدة منها ارتفاع في معدلات التعليم العالي، وحدوث تحول في القوى العاملة الفلسطينية ومشاركة أكبر نسبيا للنساء في سوق العمل، وانخفاض في مستوى الخصوبة وتقليص حجم الأسرة العربية. كل هذا ساعد على ارتفاع مستوى المعيشة لأسر فلسطينية باتت تنتمي إلى الطبقة الوسطى.

النتيجة هي أن هناك فئات ارتفع مستواها المعيشي بفعل تلك التحولات وبسبب تعزز قوة الاقتصاد الإسرائيلي الذي بات يوفر فرصا أكبر من الماضي. 

عرب 48: من الذي يستفيد من هذه الفرص؟ وهل هناك تناقض في توجه الحكومة، الذي يتُرجَم سياسيا بالمزيد من الإقصاء والتهميش ونزع الشرعية عن العرب، ويُترجَم اقتصاديا بمحاولة دمجهم في المرافق الاقتصادية الإسرائيلية المختلفة؟
صعابنة: المشكلة هي أن الارتفاع لم يكن بشكل متساوٍ، والنمو الذي تُفاخِر به حكومة نتنياهو دائما، كان من نصيب مجموعة معينة، بينما لم تستفد فئات كثيرة وبضمنها غالبية العرب، منه، علما أن العرب، كما ذكرت، استفادوا بشكل غير مباشر من تطور السوق الاقتصادي الإسرائيلي، باعتبارهم جزءا من هذا السوق الذي كلما تعززت قوته كلما ازدادت حاجته إليهم، كما استفادوا بشكل مباشر من خطة "922" التي تُعدُّ محاولة لدمج العرب في الاقتصاد الإسرائيلي. المفارقة هي أن الحكومة التي أقرت هذه الخطة، هي ذات الحكومة اليمينية التي شرعت قانون القومية العنصري، والتي تسعى إلى إقصاء العرب وتهميشهم سياسيا.

عرب 48: هل هي استمرار لسياسة "السلام الاقتصادي" المعروضة على الفلسطينيين في الضفة وغزة، بمعنى دمج العرب بشكل فردي في الاقتصاد والسوق الإسرائيلي دون حقوق جماعية، أو مقايضة الحقوق الجماعية برفع مستوى المعيشة؟ ثم إن هناك من يقول إن خطة "922" ما هي إلا كذبة كبيرة وإنها قامت بتجميع الميزانيات المخصصة للعرب أصلا في إطار الوزارات في رزمة واحدة فقط، ليس إلا؟
صعابنة: لا أعتقد ذلك، فهناك الكثير من المختصين الذين درسوا الخطة يختلفون مع هذا الرأي، ويقولون إن من يقف وراء الخطة هم بيروقراطيون ورؤساء أقسام في وزارة المالية، يعتقدون أن مشاكل العرب الاقتصادية باتت تشكل عبئا على الاقتصاد الإسرائيلي، وهم مقتنعون بضرورة إشفاء الاقتصاد العربي ودمج العرب بالاقتصاد الإسرائيلي ككل ليتمكن هذا الاقتصاد من تحقيق معدلات النمو المرجوّة. 

ونحن نعرف أن السياسة النيولبرالية تتحدث دائما عن النمو الاقتصادي وتعتبره مقياسا لنجاح السياسة الاقتصادية، ولذلك نراهم معنيين بإزالة كافة الأعباء التي تعترض طريق تحقيق هذا النمو، حتى لو تطلَّب ذلك تخصيص ميزانيات للعرب.

عرب 48: هل يتحدثون دائما عن قطاعيْن؛ هما العرب والحريديين؟
صعابنة: هم يدّعون أن مشاركة هذين القطاعين منخفضة في سوق العمل، علما أن انخفاض مشاركة النساء العربيات، تعود إلى عدم توفر فرص العمل الملائمة، بعكس الرجال الحريديين الذين يريدون التفرُّغ للدراسة الدينية.

ولكن بالمجمل هناك توجه اقتصادي جاف في وزارة المالية يقول، إنه يجب دمج العرب في الاقتصاد الإسرائيلي، ونجد ترجمات هذا التوجه في فتح أماكن العمل بشكل أكبر أمام العرب في العديد من المجالات مثل "الهايتك" وغيره  من المجالات، التي كان العرب حتى فترة قريبة لا يجدون متسعا لهم فيها، وكذلك في تخصيص ميزانيات لمجالات مختلفة مثل التعليم، والمواصلات العامة، وفي تشجيع المبادرات الاقتصادية، حتى أن الدولة زادت حصتها في هذه المشاريع من 50% إلى 85%. المشكلة ما زالت في قضايا الأرض والمسكن فقط والتي تشكل جوهر الصراع.

عرب 48: إنهم لا يقولون: خذوا كل شيء واتركوا قضية الأرض فقط، بل إنهم وفق ما يقول بعض الخبراء، قايضوا القضايا الأخرى بتنازلات من قِبَل القيادات العربية في قضايا الأرض والمسكن، بمعنى أنهم دسوا لنا السم بالعسل في خطة "922"؟
صعابنة: قضية الأرض والمسكن قضية صعبة وهي تؤثر على الكثير من المجالات المرتبطة بها أيضا، مثلا في تخصيص أراضٍ لمناطق صناعية ولمواقف باصات، ولأغراض سياحية، ومتنزهات، ومدارس، وملاعب، ناهيك عن أزمة السكن الخانقة التي يسببها ضيق مسطحات البناء والتي باتت تدفع بالعرب للهجرة إلى البلدات اليهودية المجاورة، وهي بهذا المعنى تُعيق مخطط الدمج الاقتصادي الذي يثير الكثير من التخوفات السياسية حول الاندماج السياسي في المجتمع الإسرائيلي.

عرب 48: هل فحصتم في الاستطلاع الذي أجراه معهد مدى الكرمل، تأثير الدمج الاقتصادي على إمكانية اندماجٍ سياسيٍّ في المجتمع الإسرائيلي؟
صعابنة: رغم أن فكرة الربط بين الطبقة الاجتماعية وبين الموقف السياسي، فكرة قديمة جدا، تعود إلى أبجديات الماركسية الأولى، إلا أن تداخُلَ الوطني والطبقي في حالتنا يجعل الموضوع أكثر تركيبا، ولذلك لا يمكننا رصد مدى تأثير الدمج الاقتصادي على المشاريع السياسية الجماعية للعرب، وهل سيؤدي مثل هذا الدمج الاقتصادي إلى اندماج سياسي أيضا، بحيث تصبح مصلحة تلك الفئة مرتبطة بمصلحة السوق الإسرائيلي.

عرب 48: معظم التنظيرات السياسية التي تتحدث عن تطور سياسي وطني بين جماهيرنا، تعزو ذلك إلى نشوء طبقة وسطى؟
صعابنة: صحيح ولكن الطبقة الوسطى مصطلح واسع، وهي تضم أساسا أصحاب المهن الحرة مثل الأطباء والمحامين والمحاسبين وغيرهم، وهؤلاء كانوا وما يزالون، جزءًا من السوق المحلي ولذلك ارتبطت قضاياهم بقضايا الناس، ولكن التطور الحاصل هو دمج هؤلاء في السوق الإسرائيلي بمعنى أن مكان عملهم سينتقل من قراهم إلى تل أبيب، ولذلك من الصعب معرفة التحولات الذي سيحدثها هذا التغيير.  

عرب 48: إذا ماذا قستم في استطلاعكم؟
صعابنة: لقد أخذنا مؤشر التعليم وهو مؤشر جيد عن الطبقة الوسطى التي يتشكل غالبية أفرادها من ذوي التحصيل الجامعي إجمالا، وسألنا سؤالا بسيطا، وهو: "هل ترى أن العرب يجب أن يشاركوا في مؤسسات الدولة لأجل النهوض بمجتمعهم، أم عليهم المشاركة في المؤسسات الوطنية الجماعية؟"، فجاءت الإجابات مناصَفَة على مستوى كل عيّنة، في حين ظهر أن أصحاب التعليم الجامعي هم أقل فئة تؤيد الموقف الاندماجي.

عرب 48: السؤال عن أي اندماج نتحدث، فعلى سبيل المثال الخطاب الذي طرحه التجمع وصاغه د. عزمي بشارة طرح في حينه صيغةً تربط بين الحقوق الوطنية الجماعية وبين المواطَنة، ولم يرفض فكرة الاندماج شرط أن لا يكون على هامش الدولة بل من خلال تغيير ماهيتها اليهودية وتحويلها إلى دولة لكل مواطنيها؛ السؤال المطروح هل الوضع الذي وصلنا إليه اليوم هو نتيجة ضعفٍ أصاب هذا الخطاب، أم أن الوضع السياسي هو الذي أدى إلى إضعاف هذا الخطاب؟
صعابنة: بغضّ النظر، فإن جزءا من شحذ وتجنيد الجمهور اعتمد على واقع التمييز والفقر وغيرها، وعندما تقتنع مجموعة أن الوضع تحسَّن فبماذا ستخاطب الناس؟ ربما هنا سيكون تحول، لا أعرف.

الناس قد تقول أنا حصلت حقوقي بشكل فردي وأنا لست بحاجة إلى الجماعة، والوضع أصبح جيدا بحيث أستطيع أن أصوت للأحزاب الصهيونية، وهذا التوجه ظهر في الانتخابات الأخيرة من خلال ارتفاع نسبة التصويت للأحزاب الصهيونية، وهو يشكل أرضية خصبة للمظاهر السياسية الفردية التي تعتمد النجومية الشخصية.

كل تلك القضايا هي أسئلة مفتوحة تحتاج إلى الكثير من الاجتهاد والبحث للإجابة عليها ووضع الخطط المستقبلية لمواجهة التحديات التي تفرضها أجوبتها. 


 د. عميد صعابنة: يعمل محاضرا في قسم علم الاجتماع في جامعة حيفا، ويبحث في مجال الديموغرافيا في إسرائيل وفي دول أخرى، ويختص في بحث مواضيع مثل الفوارق الطبقية، والعرقية والإثنية في الصحة والوفيات، والتهجير والمهجرين، والمبنى الطبقي وعدم المساواة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل.

التعليقات